فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

وقوله تعالى: {ذرني}
هو تهديد بالنكال والبلاء وباتجاه عذاب اللّه كله إلى هذا الإنسان الشقي الموجه إليه هذا الإنذار.. وقد أشرنا إلى معنى هذا عند تفسير قوله تعالى: {وذرْنِي والْمُكذِّبِين أولِي النّعْمةِ ومهِّلْهُمْ قلِيلا}..
في سورة المزمل (11) وقوله تعالى: {وحيدا} هو حال من فاعل: {خلقت} وهو اللّه سبحانه وتعالى، أو هو حال من المفعول المحذوف وتقديره الهاء المحذوفة في {خلقت} ويجوز أن يكون حال من المفعول به في {ذرنى} أي ذرنى وحيدا مع من خلقته.
وقوله تعالى: {وجعلْتُ لهُ مالا ممْدُودا} أي مالا كثيرا، متصلا، لا ينقطع..
وقوله تعالى: {وبنِين شُهودا} أي وجعلت له بنين حاضرين بين يديه، أي لم يموتوا، كما يموت كثير من البنين، بعد أن يوهبوا لآبائهم.
فهذا المال الذي أعطيته إياه، لا يزال بين يديه ممدودا متصلا، وهؤلاء الأبناء الذين بين يديه، حاضرون شهود لم يغيبوا عنه.. وفى هذا تهديد له بذهاب هذا المال، وفقد هؤلاء الأبناء، كما ذهبت أموال كثيرين، ومات أبناء كثيرين..
وقوله تعالى: {ومهّدْتُ لهُ تمْهِيدا}- أي هيأت له حياة رخيّة، بالمال، والبنين، الذين هما زينة الحياة الدنيا..
وقوله تعالى: {ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد} ثم إن هذا الضال العنيد، على طمع أن أزيده مالا وبنين، وذلك بما زين له ضلاله بأنه إنما أوتى ما أوتى لفضيلة اختصّ بها، ولصفات استأثر بها دون الناس، وأنّ ما بين يديه قليل إلى ما يمنّى به نفسه الملوءة غرورا..
وقوله تعالى: {كلّا.. إِنّهُ كان لِآياتِنا عنِيدا}- هو رد على أمنيات هذا الضال، وتوقعاته بأن يزداد مالا وبنين.. وكلا.. بل إن ما معه سيأخذ منذ اليوم في النقصان، حالا بعد حال، حتى يموت، ونفسه تتقطع حسرة على ما ذهب من ماله وولده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} أي سآخذه بالرهق والشدة حالا بعد حال، مصعّدا به من شدة إلى أشد منها..
وهكذا حتى يذهب كل ماله، وجميع بنيه، وهو يرى ذلك فيتقطع قلبه حسرة وكمدا..
قوله تعالى: {إِنّهُ فكّر وقدّر فقُتِل كيْف قدّر ثُمّ قُتِل كيْف قدّر ثُمّ نظر ثُمّ عبس وبسر ثُمّ أدْبر واسْتكْبر فقال إِنْ هذا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثرُ}..
فى هذه الآيات صورة معجزة من صور البيان القرآنى، الذي تعجز أدق ألوان البيان مجتمعة أن تتعلق بأذياله..
فبالكلمة، شعرا ونثرا، وبالصورة المتحركة والساكنة، والناطقة والصامتة، وبالموسيقى، ألحانا مفردة ومجتمعة.. وبكل ما عرفت الإنسانية من ألوان الإبانة والتعبير- لا يمكن أن تجيء- ولو من بعيد- بمثل هذه الصورة القرآنية التي صوّر بها هذا الإنسان الشقىّ العنيد، ظاهرا وباطنا، فلم تدع الصورة خلجة من خلجات ضميره، أو مسربا من مسارب تفكيره، أو همسة من همسات خاطره، إلا ألقت بها على قسمات وجهه، ونظرات عينيه، وحركات شفتيه، فكانت شخوصا ماثلة للعيان..
وانظر كيف كانت مسيرة هذا الضال العنيد، مع آيات اللّه، التي تليت عليه من رسول اللّه.. فلقد روى أن الوليد بن المغيرة- وكان ذا مكانة بارزة في قريش، وأشدهم عدأوة لرسول اللّه، وكان موسم الحج قد حضر- دعا سادة القوم إليه، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستفد عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا (يعنى رسول اللّه) فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيه، فيكذّب بعضكم بعضا.. قالوا فأنت يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع!
قالوا: نقول: كاهن!! قال: لا، واللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو- أي النبي- بزمزمة الكاهن ولا سجعه..
قالوا: فنقول مجنون؟ قال: ما هو بمجنون.. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته!! قالوا.. فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر.. لقد عرفنا الشعر كله، رجزه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر.. قالوا فنقول: ساحر!! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو- أي النبي- بنفثه، ولا عقده! قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟، قال: (واللّه إن لقوله لحلأوة، وإن أصله لعذق وإن أعلاه لجناة)، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا، إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: إنه ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه.. فتفرقوا عنه بذلك الرأى، وجعلوا يلقون أهل الموسم على كل طريق، ويقولون لهم: احذروا ساحرنا! وبروى عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة هذا، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى أن يرجع عن دعوته، وألا يشيع الفرقة والخلاف بين أهله وعشيرته، فتلا عليه النبي آيات من آيات اللّه، فرقّ لها قلب الوليد، وخرج من بين يدى النبي، وكأنه يحدث نفسه بأمر غير الذي جاء به. فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عمّ. إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا! قال: لماذا؟
قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله (أي لتنال مما عنده من طعام أو نحوه) فقال: لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا! قال:
فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، كاره لما يقول! فقال: وما ذا أقول؟
(فواللّه ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّى... واللّه ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وإن لقوله الذي يقول لحلأوة، وإن عليه لطلأوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته!!) قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.. قال: فدعنى حتى أفكّر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر!! أي يأثره، ويقتفى فيه أثر غيره، فنزل قوله تعالى: {ذرْنِي ومنْ خلقْتُ وحِيدا}. الآيات وننظر في سيرة هذا الضالّ العنيد مع آيات اللّه التي تلاها عليه رسول اللّه، وكيف كان يلقاها بتلك المشاعر المتضاربة المضطربة، التي تتأرجح به بين التصديق والتكذيب، والإيمان والكفر.. ثم تغلب عليه شقوته آخر الأمر، فإذا هو على رأس المكذّبين الضالين..
{إِنّهُ فكّر} فيما تلى عليه من آيات اللّه.. فقد كان من شأن هذه الآيات أن تهزّ الجماد، وتذيب الصخر!.
{وقدّر} أي جعل يزن ويقدّر كلّ ما كان يطرقه من أفكار.
{فقُتِل.. كيْف قدّر} دعاء عليه بالقتل، لهذا التقدير العجيب الذي قدّره.. إذ كيف يسوغ لمن فكر، أن يقيم ميزانا لأى كلام، مع كلمات اللّه؟..
{ثُمّ قُتِل كيْف قدّر} توكيد الدعاء عليه بالقتل، وتوكيد للتعجب من توقفه بعد تفكيره، عن أن يقول قولة الحقّ في آيات اللّه.
{ثُمّ نظر} أي نظر فيما اجتمع له، من آراء مختلفة في القرآن..
أهو شعر؟ لا ليس بشعر؟
أهو كهانة؟ لا ليس من الكهانة في شيء..
أهو قول مجنون؟ كلّا فما قائله بمجنون، ولا فيما يقوله إلّا أحكم المنطق وأصوب القول..
وهكذا، تدور الخواطر في نفسه، وتصطرع الآراء في عقله، وهو عاجز عن أن يخرج من هذه العاصفة المزمجرة التي احتوته.
{ثُمّ عبس}.
هذه انطباعة من أثر هذا الصراع الدائر في كيانه.. لقد طرقه خاطر مخيف فردّه بهذا العبوس، والتجهم.. ولعل هذا الخاطر كان يدعوه إلى أن يستسلم للحق، ويخرج على قريش معلنا إيمانه بآيات اللّه، وتصديقه برسول اللّه!! ولكن هذا العبوس قد ردّ هذا الخاطر، وألقى به في عباب الخواطر التي تموج في صدره.
{وبسر} أي زاد على العبوس تقطيبا، وزمّا لفمه، وتكشيرا عن أنيابه..
وهذه كلها تكشف عن حركات نفسية، تغدو وتروح، وتقبل وتدبر، في صدر هذا الشقي العنيد، الذي يموج بهذه المشاعر المتضاربة.
{ثُمّ أدْبر واسْتكْبر} هذه هي الجولة الأخيرة في هذا الصراع الذي كان محتدما في نفسه.. لقد انهزم العقل، وانتصر الهوى، وغابت الحكمة، وحضر الطيش والنزق.. وانتهى الأمر بأن أعطى هذا الشقي العنيد ظهره للحقّ، وأخذته العزّة بالإثم، فأبى أن يتبع سبيل المؤمنين.
{فقال إِنْ هذا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثرُ}!! وبدلا من أن يقول: (لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه).
قال: {إِنْ هذا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثرُ} أي ما هذا الذي يتلوه محمد علينا- ما هو إلا سحر،
عجيب، لابد أن يكون قد تلقاه عن خبير بالسحر وفنونه، واقتفى أثره فيه..
{إِنْ هذا إِلّا قول الْبشرِ}..
ثم لقد ازداد الشقىّ العنيد جرأة على الحقّ، فبعد أن كان يلقاه خائفا لا يكاد يواجهه، فيقول عن القرآن: {إِنْ هذا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثرُ} رافعا قدره عن أن يكون من كلام البشر- إذا هو بعد هذه القولة الآثمة، يخطو خطوة أخرى نحو الضلال، فيقول: {إِنْ هذا إِلّا قول الْبشرِ}.. إنه مجرد كلام، لا يصل إلى أن يكون سحرا! وهكذا الحق بسطوته وقوته، يكشف عن جبن أعدائه، حتى وهم- في ظاهر الأمر- غالبون منتصرون..
هذا، ومن الملاحظ أن العطف بين أحوال هذا الشقي الأثيم، قد جاء بالحرف {ثمّ} الذي يفيد التراخي..
{ثُمّ نظر.. ثُمّ عبس وبسر.. ثُمّ أدْبر واسْتكْبر}.
ففى كل حال من تلك الأحوال، عاش هذا الشقي زمنا، مقدّرا، ومفكرا، ثم إنه ما إن انتهى من هذا الصراع الذي يدور في كيانه، وما إن أمسك بالكلمة التي يطلع بها على القوم، حتى بادر بإلقائها إليهم قبل أن تفلت منه، ويغلبه عليها ما يدور في خاطره من كلام لا يقبلونه منه.. ولهذا جاء العطف بالفاء التي تفيد التعقيب دون تراخ، أو إمهال.. {فقال إِنْ هذا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثرُ إِنْ هذا إِلّا قول الْبشر} وكما أسرع الشقىّ بكلمة الكفر يجهر بها، قبل أن تفلت منه- كذلك أسرع إليه العقاب الذي يستحقه بسبب هذه القولة الفاجرة التي صدرت عنه.. فيجيء في أعقابها قوله تعالى: {سأُصْلِيهِ سقر}.
يجيء هذا الوعيد، الذي يحمل {سقر} إلى هذا الشقىّ، أو يحمله هو إليها، من غير حرف عطف أصلا، يفصل بينه وبين قوله الآثم، وكأنّ هذه النار التي سيصلاها، هي بعض هذا القول الخارج من فمه.. وإذا هذه النار مشتملة عليه.. تأكله، كما تأكل الحطب! و{سقر} هي جهنم، وقيل اسم من أسمائها، أو درك من دركاتها..
إنه لم يكن بين قول هذا الشقىّ، وبين الآية التي حملت إليه هذا الوعيد- لم يكن ثمة فاصل، لفظى أو تقديرىّ.. وهذا يعنى أن هذه الجريمة تحمل معها عقابها دائما، فلا ينفصل عنها بحال أبدا..
{وما أدْراك ما سقرُ}.
استفهام يراد به الإشارة إلى أن المستفهم عنه شيء مهول، لا يمكن وصفه.. لأنه مما لم يقع في حياة الناس أبدا..
{لا تُبْقِي ولا تذرُ}.
إنه وصف لسقر، بأفعالها، وما تترك من آثار.. أما ذاتها فلا يمكن تصورها..
ومن صفاتها، أنها لا تبقى شيئا إلا التهمته، وجعلته وقودا لها، كما لا تذر أحدا من أهل الضلال إلا ضمته إليها، وأذاقته بأسها، لا تدع منه ظاهرا أو باطنا إلا ذاق عذابها..
{لواحةٌ لِلْبشرِ}..
أي أنها مغيّرة لألوان البشر، إلى لون الفحم، بما تلفح به وجوههم من لهيبها..
{عليْها تِسْعة عشر}..
أي على هذه النار، التي هي سقر، تسعة عشر من الزبانية، يقومون على حراستها، وتقليب الحطب المقدّم إليها من المكذبين والضالين، الذين يلقى بهم فيها، ليكونوا وقودا لها.. اهـ.